تناول القرآن في آيات كثيرة موضوع الشكر, وبيّن فضله وأهميته وخطورة تركه حتى تُستثار المشاعر وتُشحذ الهمم والعزائم نحو تحصيله، فلقد أخبرنا الله عز وجل أن الشكر هو العبودية التي ينبغي أن نتلقى بها نعمة (وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: من الآية 26)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)) (البقرة: 172). وهذا نبي الله سليمان- عليه السلام- يلفت انتباه من حوله على هذا الأمر عندما وجد عرش بلقيس أمامه في لمح البصر: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: من الآية 40).
من هنا كان الشكر هو الوسيلة العظيمة التي يدفع بها العبد العذاب والنقص عن نفسه: (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)) (النساء: من الآية 147). فالعذاب والنقص إنما يكون بسبب مخالفة العبد لمراد الرب سبحانه وتعالى, ومراده سبحانه من عبده عندما يتم عليه نعمة أن يشكره عليها, فإن لم يفعل فإنه يستدعي غضبه سبحانه وعقابه, لذلك يقول أحد السلف: نظرت في الخير الذي لا شر فيه فلم أر إلا المعافاة والشكر.
وقال: نظرت في المعافاة والشكر فوجدت فيهما خير الدنيا والآخرة.
وقال أبو قلابة: لا تضركم الدنيا إذا شكرتموها.
فلا كثير مع الشكر, ولا قليل مع الكفر؛ بمعنى أننا إن أكرمنا الله عز وجل بنعم كثيرة في ديننا ودنيانا وقمنا بأداء شكرها فإننا بذلك نكون قد سرنا في طريق رضا الله عز وجل (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (الزمر: من الآية 7).
فلا بأس أن تأخذ ما أنعم الله عز وجل به عليك, وتتنعم به في الدنيا؛ شريطة أن تقرن ذلك بالشكر (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف: من الآية 144).
بل إن الشكر يؤدي إلى مزيد من الإنعام الإلهي لأنك بالشكر تحقق مراد ربك في النعم, ومن ثم تكون أهلاً لتلقي المزيد (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: من الآية 7). قال علي رضي الله عنه: إن النعمة موصولة بالشكر, والشكر متعلق بالمزيد, وهما مقرونان في قرن, فلن ينقطع المزيد من الله عز وجل حتى ينقطع الشكر من العبد. وقال عمر بن عبد العزيز: قيدوا نعم الله بشكر الله.
وقال الفضيل بن عياض: إن الله عز وجل ليشكر العبد إذا قال الحمد لله, وإن كان على فراش وضيء, وعنده زوجة شابة حسناء.
وقال الحسن البصري: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء, فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابًا.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: ولهذا كانوا يسمون الشكر بالحافظ لأنه يحفظ النعم الموجودة, والجالب: لأنه يجلب النعم المفقودة.
ولأن الشكر هو مستهدف العبودية, فإن إبليس يعمل على صرف الناس عنه حتى يسهل عليه السير بهم نحو النار فيتحقق مراده في إضلالهم وهلاكهم, تأمل معي ما قاله لله عز وجل عندما تأكد من طرده من رمة الله: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)) (الأعراف). من هنا نقول: إن تضييع الشكر وترك القيام به عند ورود النعم يضع العبد في طريق خطير.. طريق الجحود والنكران, ومن ثم يستدعي غضب الله عز وجل عليه: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)) (النحل). ولنا في قصة سبأ أبلغ العبر في ذلك: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)) (سبأ).
والشكر عكسه الكفر, فإن الشكر هو إظهار النعمة والاعتراف بها، فالكفر هو سترها أو بمعنى آخر التقليل من شأن ما أعطاه الله للعبد، لذلك قسَّم سبحانه العباد إلى قسمين: (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان: من الآية 3). قال الحسن في قول الله تعالى (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)) (العاديات)؛ أي يعدد المصائب وينسى النعم.
وخطورة ترك الشكر تمتد مع العبد في الدنيا والآخرة، فترك الشكر يعرض النعمة للزوال، قالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: "يا عائشة.. أحسني جوار نعم الله، فإنها قلما زالت عن قوم فعادت إليهم".
tkp`v lk jv; hga;v ( ] l[]d hgighgd )
0 التعليقات:
إرسال تعليق